فصل: من فوائد الفخر الرازي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

وقوله: {ويقول الّذين آمنوا} قرأه الجمهور {يقول} بدون واو في أوّله على أنّه استئناف بياني جواب لسؤال من يسأل: ماذا يقول الّذين آمنوا حينئذٍ.
أي إذا جاء الفتح أو أمر من قوة المسلمين ووهنَ اليهود يقول الّذين آمنوا.
وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف {ويَقول} بالواو وبرفع {يقول} عطفًا على {فعسى الله}، وقرأه أبو عمرو، ويعقوب بالواو أيضًا وبنصب {يقول} عطفًا على {أن يأتي}.
والاستفهام في {أهؤلاء} مستعمل في التعجّب من نفاقهم.
و{هؤلاء} إشارة إلى طائفة مقدّرة الحصول يومَ حصول الفتح، وهي طائفة الّذين في قلوبهم مرض.
والظاهر أنّ {الّذين} هو الخبر عن {هؤلاء} لأنّ الاستفهام للتّعجب، ومحلّ العجب هو قَسمَهم أنّهم معهم، وقد دلّ هذا التعجّب على أنّ المؤمنين يظهر لهم من حال المنافقين يوم إتيان الفتح ما يفتضح به أمرهم فيعجبون من حلفهم على الإخلاص للمؤمنين.
وجَهْدُ الأيمان بفتح الجيم أقواها وأغلظها، وحقيقة الجَهد التعب والمشقّة ومنتهى الطاقة، وفِعله كمنع.
ثم أطلق على أشدِّ الفعللِ ونهاية قوّته لِمَا بَيْن الشدّة والمشقّة من الملازمة، وشاع ذلك في كلامهم ثُمّ استعمل في الآية في معنى أوْكَدِ الأيمان وأغظلها، أي أقسموا أقوى قَسَم، وذلك بالتّوكيد والتّكرير ونحو ذلك ممّا يغلّظ به اليمين عُرفًا.
ولم أر إطلاق الجَهد على هذا المعنى فيما قبلَ القرآن.
وانتصبَ {جَهدَ} على المفعولية المطلقة لأنّه بإضافته إلى «الأيمان» صار من نوع اليمين فكان مفعولًا مطلقًا مبيّنًا للنّوع.
وفي الكشاف في سورة النّور جعله مصدرًا بدلًا من فعله وجعل التّقدير: أقسموا بالله يجهدون أيمانَهم جَهدًا، فلمّا حذف الفعل وجعل المفعول المطلق عوضًا عنه قدّم المفعول المطلق على المفعول به وأضيف إليه.
وجملة {حَبِطت أعمالهم} استئناف، سواء كانت من كلام الّذين آمنوا فتكون من المحكي بالقَول، أم كانت من كلام الله تعالى فلا تكونه.
وحبطت معناه تلِفت وفسَدت، وقد تقدّم في قوله تعالى: {فأولئك حبطت أعمالهم في الدّنيا والآخرة} في سورة البقرة (217). اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآيتين:

قال عليه الرحمة:
{فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)}.
يعني إن الذين سقمت ضمائرهم، وضعفت في التحقيق بصائرهم تسبق إلى قلوبهم مداراة الأعداء خوفًا من معاداتهم، وطمعًا في المألول من صحبتهم، ولو استيقنوا أنهم في أسر العجز وذل الإعراض ونفي الطرد لأَملَّوا الموعود من كفاية الحق، والمعهود من جميل رعايته، ولكنهم حُجِبُوا عن محل التوحيد؛ فتفرَّقوا في أودية الحسبان والظنون، وعن قريبٍ يأتيكم الفَرَجُ- أيها المؤمنون، وتُرْزَقُون الفتحَ بحسن الإقبال، والظفر بالمسؤول لسابق الاختيار، فيشعرون الندم، ويقاسون الألم، وأنتم «تعلون» رؤوسكم بعد الإطراق، وتصفوا لكم مَشارِب الإكرام، وتضيء بزواهر القرب مَشَارِقُ القلوب. حينئذٍ يقول الذين آمنوا هؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم يعاينون بأبصارهم ما تحققوه بالغيب في أسرارهم، ويَصِلُون من موعودهم إلى ما يوفي ويربو على مقصودهم. اهـ.

.من فوائد الفخر الرازي:

قوله: {حَبِطَتْ أعمالهم} يحتمل أن يكون من كلام المؤمنين، ويحتمل أن يكون من كلام الله تعالى، والمعنى ذهب ما أظهروه من الإيمان، وبطل كل خير عملوه لأجل أنهم الآن أظهروا موالاة اليهود والنصارى، فأصبحوا خاسرين في الدنيا والآخرة، فإنه لما بطلت أعمالهم بقيت عليهم المشقة في الإتيان بتلك الأعمال، ولم يحصل لهم شيء من ثمراتها ومنافعها، بل استحقوا اللعن في الدنيا والعقاب في الآخرة. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ}.
مِنَ الْمَعْلُومِ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ الشَّرِيفَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَادَعَ الْيَهُودَ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، وَأَقَرَّهُمْ عَلَى دِينِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَأَثْبَتَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ فِي الْمُؤَاخَاةِ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَحُقُوقِ الْقَبَائِلِ وَالْبُطُونِ، وَمِمَّا جَاءَ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ: «وَأَنَّهُ مَنْ تَبِعَنَا مِنَ الْيَهُودِ فَإِنَّ لَهُ النَّصْرَ وَالْأُسْوَةَ غَيْرَ مَظْلُومِينَ وَلَا مُتَنَاصَرٍ عَلَيْهِمْ» وَمِنْهُ فِي حُقُوقِ الْحِلْفِ وَالْوَلَاءِ فِي الْحَرْبِ: «وَأَنَّ الْيَهُودَ يُنْفِقُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مَا دَامُوا مُحَارِبِينَ، وَأَنَّ يَهُودَ بَنِي عَوْفٍ أُمَّةٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، لِلْيَهُودِ دِينُهُمْ وَلِلْمُسْلِمِينَ دِينُهُمْ، مَوَالِيهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ، إِلَّا مَنْ ظَلَمَ أَوْ أَثِمَ فَإِنَّهُ لَا يُوتِغُ «أَيْ يُهْلِكُ» إِلَّا نَفْسَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ، وَأَنَّ لِيَهُودِ بَنِي النَّجَّارِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ» ثُمَّ أَعْطَى مِثْلَ مَا لِبَنِي عَوْفٍ لِيَهُودِ بَنِي الْحَارِثِ وَسَاعِدَةَ وَجُشَمَ وَالْأَوْسِ وَثَعْلَبَةَ- وَمِنْهُمْ جَفْنَةُ- وَالشَّطَنَةُ.
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ: «وَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ صَارَ الْكُفَّارُ مَعَهُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ صَالَحَهُمْ وَوَادَعَهُمْ عَلَى أَلَّا يُحَارِبُوهُ، وَلَا يُظَاهِرُوا عَلَيْهِ، وَلَا يُوَالُوا عَلَيْهِ عَدُوَّهُ، وَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ آمِنُونَ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَقِسْمٌ حَارَبُوهُ وَنَصَبُوا لَهُ الْعَدَاوَةَ، وَقِسْمٌ تَارِكُوهُ فَلَمْ يُصَالِحُوهُ وَلَمْ يُحَارِبُوهُ، بَلِ انْتَظَرُوا مَا يَئُولُ إِلَيْهِ أَمْرُهُ وَأَمْرُ أَعْدَائِهِ ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ كَانَ يُحِبُّ ظُهُورَهُ وَانْتِصَارَهُ فِي الْبَاطِنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ دَخَلَ مَعَهُ فِي الظَّاهِرِ، وَهُوَ مَعَ عَدْوِّهِ فِي الْبَاطِنِ؛ لِيَأْمَنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُنَافِقُونَ، فَعَامَلَ كُلَّ طَائِفَةٍ مِنْ هَذِهِ الطَّوَائِفِ بِمَا أَمَرَهُ بِهِ رَبُّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَصَالَحَ يَهُودَ الْمَدِينَةِ، وَكَتَبَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ كِتَابُ أَمْنٍ. وَكَانُوا ثَلَاثَ طَوَائِفَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ؛ بَنِي قَيْنُقَاعَ، وَبَنِي النَّضِيرِ، وَبَنِي قُرَيْظَةَ، فَحَارَبَتْهُ بَنُو قَيْنُقَاعَ بَعْدَ ذَلِكَ بَعْدَ بَدْرٍ، وَأَظْهَرُوا الْبَغْيَ وَالْحَسَدَ»، ثُمَّ قَالَ فِي فَصْلٍ آخَرَ: «ثُمَّ نَقَضَ الْعَهْدَ بَنُو النَّضِيرِ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ بَدْرٍ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ» وَبَيَّنَ كَيْفَ تَآمَرُوا عَلَى قَتْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} (5: 11) إِذْ وَرَدَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ بَيَّنَ فِي فَصْلٍ آخَرَ أَنَّ قُرَيْظَةَ كَانَتْ أَشَدَّ عَدَاوَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُمْ نَقَضُوا صُلْحَهُ لَمَّا خَرَجَ إِلَى غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ، وَبَيَّنَ كَيْفَ حَارَبَ كُلَّ طَائِفَةٍ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهَا. فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ الْعَامُّ فِي النَّهْيِ عَنْ مُوَالَاةِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ. وَكَانَ نَصَارَى الْعَرَبِ، وَكَذَا الرُّومُ بِالطَّبْعِ، حَرْبًا لَهُ كَالْيَهُودِ.
وَأَمَّا السَّبَبُ الْخَاصُّ الَّذِي ذَكَرُوهُ فِي سَبَبِ النُّزُولِ فَهَاكَ مُلَخَّصُهُ: أَخْرَجَ رُوَاةُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ، أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ قَالَ: لَمَّا حَارَبَتْ بَنُو قَيْنُقَاعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشَبَّثَ بِأَمْرِهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ زَعِيمُ الْمُنَافِقِينَ وَقَامَ دُونَهُمْ، وَمَشَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَبَرَّأَ إِلَى اللهِ وَإِلَى رَسُولِهِ مِنْ حِلْفِهِمْ، وَكَانَ أَحَدَ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَلَهُ مِنْ حِلْفِهِمْ مِثْلُ الَّذِي كَانَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ، فَخَلَعَهُمْ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: «أَتَوَلَّى اللهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَأَبْرَأُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ مِنْ حِلْفِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ وَوِلَايَتِهِمْ»، قَالَ: وَفِيهِ وَفِي عَبْدِ اللهِ نَزَلَتِ الْآيَاتُ فِي الْمَائِدَةِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: جَاءَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي مَوَالِيَ مِنَ الْيَهُودِ كَثِيرٌ عَدَدُهُمْ، وَإِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ مِنْ وِلَايَةِ يَهُودَ، وَأَتَوَلَّى اللهَ وَرَسُولَهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ: إِنِّي رَجُلٌ أَخَافُ الدَّوَائِرَ، لَا أَبْرَأُ مِنْ وِلَايَةِ مَوَالِيَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ: «يَا أَبَا الْحُبَابِ! أَرَأَيْتَ الَّذِي نَفَسْتَ بِهِ مِنْ وَلَاءِ يَهُودَ عَلَى عُبَادَةَ، فَهُوَ لَكَ دُونَهُ» قَالَ: إِذَنْ أَقْبَلُ، فَأَنْزَلَ اللهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى} إِلَى أَنْ بَلَغَ {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (5: 67).
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي الْآيَةِ، أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ؛ إِذْ غَدَرُوا وَنَقَضُوا الْعَهْدَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِتَابِهِمْ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ؛ يَدْعُونَهُ وَقُرَيْشًا لِيُدْخِلُوهُمْ حُصُونَهُمْ، فَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا لُبَابَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ إِلَيْهِمْ يَسْتَنْزِلُهُمْ مِنْ حُصُونِهِمْ، فَلَمَّا أَطَاعُوا لَهُ بِالنُّزُولِ أَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ بِالذَّبْحِ، وَفِيهَا أَنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يُكَاتِبُونَ النَّصَارَى بِالشَّامِ، وَأَنْ بَعْضَهُمْ كَانَ يُكَاتِبُ يَهُودَ الْمَدِينَةِ بِأَخْبَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُمَنُّونَ إِلَيْهِمْ لِيَنْتَفِعُوا بِمَا لَهُمْ وَلَوْ بِالْقَرْضِ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: لَمَّا خَافُوا أَنْ يُدَالَ لِلْمُشْرِكِينَ يَوْمَ أُحُدٍ أَنَّهُ يَلْحَقُ بِفُلَانٍ الْيَهُودِيِّ فَيَتَهَوَّدَ مَعَهُ. وَقَالَ آخَرُ: إِنَّهُ يَلْحَقُ بِفُلَانٍ النَّصْرَانِيِّ فَيَتَنَصَّرَ مَعَهُ، وَأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ، وَكَانَ هَؤُلَاءِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ.
أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَاتِ نَزَلَتْ بَعْدَ تِلْكَ الْوَقَائِعِ وَغَيْرِهَا مِمَّا ذَكَرُوهُ، إِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَاتُ، وَأَنَّ مَعْنَى جَعْلِهَا أَسْبَابًا لِنُزُولِهَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمَعْنَى الَّذِي يَنْتَظِمُهَا، وَهُوَ النَّهْيُ عَنْ مُوَالَاةِ النَّصْرِ وَالْمُظَاهَرَةِ لِهَؤُلَاءِ النَّاسِ؛ إِذْ كَانُوا حَرْبًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَكَانُوا هُمُ الْمُعْتَدِينَ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُقَاتِلْ إِلَّا مَنْ نَصَّبُوا أَنْفُسَهُمْ لِقِتَالِهِ، وَمَعْنَاهَا عَامٌّ فِي كُلِّ حَالٍ كَالْحَالِ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا.
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} عُلِمَ مِمَّا سَبَقَ أَنِ الْمُرَادَ بِالْوِلَايَةِ وِلَايَةُ التَّنَاصُرِ وَالْمُحَالَفَةِ، وَقَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِكَوْنِهَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّ النَّهْيَ لِأَفْرَادِ الْمُسْلِمِينَ وَجَمَاعَتِهِمْ دُونَ جُمْلَتِهِمْ، وَأَنَّهُ يَشْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ وَغَيْرَهُمْ؛ لِأَنَّهُ مُقَدِّمَةٌ لِلْإِنْكَارِ عَلَى مَرْضَى الْقُلُوبِ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ لَهُمُ الْيَدَ عِنْدَهُمْ لِعَدَمِ ثِقَتِهِمْ بِبَقَاءِ الْإِسْلَامِ وَثَبَاتِ أَهْلِهِ. وَلَوْلَا هَذَا لَجُوِّزَ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ لِجُمْلَةِ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا، لَا لِأَنَّ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ أَلَّا يُحَالِفَ أَهْلُهُ مَنْ يُخَالِفُهُمْ فِيهِ. كَيْفَ وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَالَفَ يَهُودَ الْمَدِينَةِ عَقِبَ الْهِجْرَةِ؟ بَلْ لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا فِي حَنَقٍ شَدِيدٍ عَلَى الْإِسْلَامِ وَحَسَدٍ لِلْعَرَبِ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ، فَلَا يُوثَقُ بِوَفَائِهِمْ بَعْدَ مَا كَانَ مِنْ خِيَانَتِهِمْ وَغَدْرِهِمْ، وَلَكِنَّ هَذَا غَيْرُ مُرَادٍ مِنَ الْآيَةِ، بَلِ السِّيَاقُ يَدُلُّ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ؛ وَهُوَ أَنْ يُوَالِيَ أَفْرَادٌ أَوْ جَمَاعَاتٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أُولَئِكَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى الْمُعَادِينَ لِلنَّبِيِّ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَيُعَاهِدُونَهُمْ عَلَى التَّنَاصُرِ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ؛ رَجَاءَ أَنْ يَحْتَاجُوا إِلَى نَصْرِهِمْ إِذَا خُذِلَ الْمُسْلِمُونَ وَغُلِبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ. وَنُكْتَةُ التَّعْبِيرِ عَنْهُمْ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى دُونَ أَهْلِ الْكِتَابِ هِيَ أَنَّ مُعَادَاتِهِمْ لِلنَّبِيِّ وَالْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا كَانَتْ بِحَسَبِ جِنْسِيَّاتِهِمُ السِّيَاسِيَّةِ، لَا مِنْ حَيْثُ أَنَّ كِتَابَهُمْ يَأْمُرُهُمْ بِذَلِكَ.